روابط المواقع القديمة للحزب
بلاغ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني بمناسبة مرور 100عام على ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى
تكرم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني مناسبة مرور 100عام على ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى. تكرم الحدث التاريخي للقرن اﻠ20الذي أثبت بأن الرأسمالية قابلة للهزيمة، و أن باستطاعتنا بناء تنظيم مجتمع أرقى، خالٍ من استغلال الإنسان للإنسان.
لقد أضاءت ثورة أكتوبر قوة الصراع الطبقي الثوري، قوة المستغَلين والمضطهدين عندما ينقضون نحو المشهد و يحركون عجلة التاريخ نحو الأمام، نحو اتجاه التحرر الاجتماعي. حيث شكَّلت ضمن الزمن التاريخي، استمرارا لانتفاضات العبيد و فلاحي القرون الوسطى، والثورات البرجوازية، ولكنها شكلت في نفس الوقت ذروتها و تجاوزها، ما دام قد طُرح ضمنها و لأول مرة، هدف إلغاء المجتمع الطبقي الاستغلالي ، باعتباره هدفاً للثورة. و ذلك بعد مرور ستة وأربعين عاما على "اقتحام السماء"البطولي في كومونة باريس، حيث جاءت الطبقة العاملة الروسية في ثورة أكتوبر لتجسد تطلع الملايين من جماهير العمال و الشعب نحو حياة أفضل.
و أثبتت ثورة أكتوبر صوابية الفكر اللينيني بأن انتصار الاشتراكية هو ممكن في بلد واحد أو في مجموعة بلدان نتيجة التنمية غير المتكافئة للرأسمالية.
لقد كان أكتوبر 1917حدثاً ذي أهمية عالمية ودائمة. و أكد قدرة الطبقة العاملة (باعتبارها قوة اجتماعية قادرة و مضطلعة بواجب قيادة النضال الثوري من أجل مجتمع خالٍ من الاستغلال، وانعدام اليقين، والفقر والبطالة والحروب) لتحقيق مهمتها التاريخية. وأكد أيضا أن تحقيق المهمة التاريخية للطبقة العاملة لا يتحدد عبر واقع نسبتها من السكان الناشطين اقتصاديا، بل من واقعة كونها حاملاً لعلاقات الإنتاج الاشتراكية الجديدة.
و في الوقت نفسه، أبرز أكتوبر الدور الذي لا يستعاض عنه للطليعة الثورية السياسية، أي الحزب الشيوعي، باعتباره عامل إرشاد ليس فقط للثورة الاشتراكية، بل للصراع بأكمله من أجل تشكيل وتعزيز المجتمع الشيوعي الجديد، و نصره النهائي.
لقد قادت شعلة أكتوبر نحو تسريع تأسيس عدد من الأحزاب الشيوعية، أحزاب عمالية ثورية من طراز جديد، على النقيض من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في تلك الحقبة، و هي التي كانت قد خانت الطبقة العاملة والسياسة الثورية، عبر اختيارها طريق دمج الحركة العمالية تحت راية الطبقة البرجوازية ودعمها للعدوان العسكري الإمبريالي ضد دولة العمال الفتية في روسيا.
هذا و شكلت ثورة أكتوبر الظافرة استمراراً لكل الانتفاضات العمالية السابقة، ومهدت الطريق نحو مرور الإنسانية التاريخي "من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية". حيث كان لينين قد كتب ملخصاً لأهميتها التاريخية:
"نحن بدأنا هذا العمل.حيث ليست بجوهرية هي مسألة، خلال أية مدة زمنية، سوف تقوم بروليتاريا أية أمة بإكماله. إن الجوهري هو أن الجليد قد كُسر ؛ و الطريق قد فتحت و المسار قد رُسم".
إن دروس أكتوبر هي ذات أهمية خاصة، حيث تبدو عجلة التاريخ و كأنها تدور نحو الخلف، اليوم، حيث تتواجد الحركة الشيوعية الأممية في ظروف أزمة و انحسار، اليوم، حيث تعزز الآثار المديدة للثورة المضادة (منذ أوائل عقد التسعينات) رؤية خاطئة لدى العديد من العمال تقول بعدم و جود أي منفذ بديل من الرأسمالية.
إن التطور التاريخي نفسه يساعد على الكشف عن زيف الدعاية البرجوازية القائلة بالطابع الطوباوي للمشروع الاشتراكي - الشيوعي. فما من نظام اجتماعي – اقتصادي في تاريخ البشرية و قد تمكن من توطيد نفسه عبر محاولة واحدة، عبر مسار مستقيم لتلك القوى الطبقية الممثلة لحوامل التقدم الاجتماعي، في كل مرة. فبعد انتفاضة العبيد الكبرى ، صُلِب سبارتاكوس، و لكن جرى تجاوز العبودية تاريخيا. و بعد الثورة البرجوازية الفرنسية عام 1789، قطع رأس روبسبير، ولكن الإقطاع لم يعد ذي مستقبل.
إن الطبقة البرجوازية تخفي عمداً واقعة استغراق ترسيخ سلطتها نحو أربعة قرون. فقد استغرق الأمر بضعة قرون، اعتباراً من أولى خطى الطبقة البرجوازية في القرن اﻠ14في المدن التجارية في شمال إيطاليا حتى الثورات البرجوازية في القرنين اﻠ18و19، حتى تطور العلاقات الرأسمالية لتكون قادرة على فرض نفسها و على إلغاء كامل علاقات الإنتاج الإقطاعية. إن الهزائم السياسية التي منيت بها الطبقة البرجوازية في تلك الفترة، لا تنفي واقعة ضرورة استبدال علاقات الإنتاج القديمة بين السيد الإقطاعي والقن، التي تجاوزها التاريخ، بالعلاقات البرجوازية بين الرأسمالي والعامل.
حيث عبثا يدعي الممثلون السياسيون للطبقة البرجوازية بأن الرأسمالية غير قابلة للاستبدال و أنها أبدية، وأن الصراع الطبقي الثوري لا يشكل رافعة للتطور التاريخي.
فقد أثبت على مدى عقود وجود المجتمع الاشتراكي و نجاحه، الذين دُشنا عبر ثورة أكتوبر، أن من الممكن وجود مجتمع دون أسياد، و دون ملكية الرأسماليين لوسائل الإنتاج. حيث لا يُنقض هذا الاستنتاج من واقعة عدم تمكنه في هذه الفترة المحددة من هزيمة الملكية الرأسمالية والربح الرأسمالي على نحو نهائي.
لا تزال الاشتراكية ضرورة راهنية و واقعية.
إن ضرورة الاشتراكية و راهنيتها وإمكانية إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الممركزة، تنبع من التطور الرأسمالي الذي يقود إلى مركزة اﻹنتاج. إن الملكية الرأسمالية تعني فرملة الطابع الاجتماعي للإنتاج. و تبطل الملكية الرأسمالية امكانية عيش جميع العاملين في ظروف منظمة اجتماعياً و أفضل لتلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة: أي أن يكون للجميع عمل دون كابوس البطالة، والعمل لساعات أقل للتمتع بمستويات معيشة أفضل، مع تعليم و خدمات صحية و رعاية اجتماعية، عامة حصرية و مجانية وبمستوى نوعي عالٍ.
حيث تولد هذه الإمكانيات من عمل الطبقة العاملة داخل الرأسمالية، و يوسعها تطور العلوم والتكنولوجيا. و على الرغم من ذلك، تسحق حاجات الطبقة العاملة و الشرائح الشعبية، في مجتمع حيث تتحدد ماهية و كيفية ما سينتج وفق معيار الربح الرأسمالي الفردي. إن جوهر المشكلة يكمن في حقيقة تمايز من يقوم بالإنتاج عمن يقرر بشأن أهداف وتنظيم الإنتاج. إن الأزمات الاقتصادية الدورية التي تغدو و باضطراد أكثر عمقا و تزامناً، هي متواجدة في صلب الحمض النووي للرأسمالية، و تقود تبعاتها إلى زيادة البطالة بشكل حاد، و توسيع العمل بأجور سيئة دون ضمان إجتماعي، والحياة مع حقوق مسحوقة و حروب امبريالية تجري من أجل لتقاسم الأسواق و الأراضي.
وعلى الرغم من ارتفاع إنتاجية العمل، فإن تدهور ظروف العمل والمعيشة هو متعلق بالعالم الرأسمالي كله، وحتى بالدول الرأسمالية الأكثر تطورا. حيث تعترف الدول الرأسمالية بعينها و مراكز بحوثها، بتقلص الدخل العمالي، في حين ازدياد ثروات الرأسماليين.
و على غرار الفترات السابقة للانقلابات الاجتماعية، يتمثل اليوم عامل حاسم لتآكل قوة النظام الاستغلالي القديم، دائماً في تناقضاته الداخلية، وفي احتدام تناقضاته. حيث تقدمهذه إمكانية تطوير الصراع الطبقي وتصعيده و إكسابه طابعاً إنقلابياً. حيث يتفاقم اليوم التناقض الأساسي للنظام في عصر الرأسمالية الاحتكارية، أي أنه في حين اكتساب العمل والإنتاج لطابع اجتماعي على نطاق غير مسبوق، يُستملك الجزء اﻷكبر من نتائجهما من قبل مساهمي المجموعات الاحتكارية. إننا بصدد مساهمين رئيسيين – متطفلين على الحياة الاقتصادية وغير ضروريين لتنظيم الإنتاج وإدارته، و هم يستغلون الطبقة العاملة و يعتصرونها. و هم المساهمون الذين غالبا ما يجهلون أين تقع المجموعات التي يمتلكون أسهمها و يجنون أرباحها، و ماهية ما تنتجه هذه المجموعات.
كما و يتعزز في توازٍ مع هيمنة المجموعات الاحتكارية اتجاه نحو الركود النسبي، بالمقارنة مع الإمكانات والزخم الناجم عن المستوى الحالي لتطور القوى المنتجة، من حيث ما يمكن إنتاجه كماً ونوعاً، إذا ما تخلص المجتمع من الربح الذي يُعتبر محرك الإنتاج. حيث تتمثل عناصر التطفل والركود النسبي في:ما يسمى التهالك المدمج في البضائع (استخدام المعرفة العلمية للحد من عمر المنتجات)، القيود المفروضة على نشر التكنولوجيا من خلال ما يسمى براءة الاختراع التي تملكها المجموعات الاقتصادية، التقليل الظرفي لقيمة تطوير قطاعات لا تعود بربح كافٍ (مثل قطاع الوقاية من الزلازل)، وتدمير البيئة عبر استغلالها الغير عقلاني من أجل الربح الرأسمالي، و الانفاق الهائل في البحث العلمي لإنتاج الأسلحة و وسائط القمع و غيرها.
إن ميزان القوى السلبي بحق الطبقة العاملة اليوم، يُعيد إنتاج الانطباع (في ظل سيطرة الأيديولوجيا البرجوازية) أن سلطة و عدوانية رأس المال هما غير قابلتان للهزيمة. و هو يعجز على الرغم من ذلك، عن إخفاء تعفن الرأسمالية و الإمكانية الموضوعية لإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، و أن تُستملك من قبل سلطة العمال و تُستخدم مع تخطيط مركزي و حافز المنفعة الاجتماعية.
و يُثبت كل تاريخ ثورة أكتوبر وما سبقها أن سلبية ميزان القوى ليست أبدية وغير قابلة للتغيير.
عن ظهور الظروف المواتية من أجل اﻹنقلاب الثوري
لا تقود واقعة تشكُّل مقدمات بناء المجتمع الاشتراكي- الشيوعي تلقائيا إلى تحقيق بنائه. و يتمثل أحد الأسباب المهمة لذلك، في أنه و خلافا لقوانين الطبيعة، فإن قيام التطور الاجتماعي يشترط نشاط البشر، و في هذه الحالة عبر الصراع الطبقي من أجل إلغاء المجتمع القديم وبناء المجتمع الجديد.
و يشترط اندلاع الثورة الاشتراكية (كأي ثورة اجتماعية شهدها تاريخ البشرية) ظهور وضع تضعف خلاله قدرة الطبقة المسيطرة على دمج الشعب و قمعه و تطمينه.
و كان لينين قد وضع مفهوم الحالة الثورية وحددت ملامحها الرئيسية الموضوعية و الذاتية التي تتراكم في المجتمع عشية الثورة:
- يعجز من هم في"اﻷعلى" (الطبقة الرأسمالية الحاكمة) عن الحكم و اﻹدارة كما من قبل.
- لا يريد من في "اﻷسفل" (الطبقة العاملة والشرائح الشعبية) أن يعيش كما من قبل.
- يُسجَّل ارتفاع غير عادي في نشاط الجماهير.
وهكذا، يُصعِّد بؤس من هم في "الأسفل"واستيائهم من نشاطهم السياسي، في حين يُسيطر على في من هم في "اﻷعلى"، الحرج، والضعف، والتناقضات، والتردد.
إن ظهور وضع كهذا ملائم للإنقلاب الثوري في المجتمع الرأسمالي هو أمر موضوعي و ينبع من الاحتدام الفجائي الحاد لتناقضاته.
و على الرغم من ذلك، و كما أشار لينين بصواب، لا تتحول كل حالة ثورية إلى ثورة. حيث لا يقود رد فعل من هم في اﻷسفل و لا أزمة من في اﻷعلى إلى قلبهم، إذا لم تكن هناك انتفاضة ثورية مخططة للطبقة العاملة، و موجهة من قبل طليعتها الواعية.
وبعبارة أخرى، من المطلوب من أجل تمظهر الثورة العمالية، حضور الطليعة السياسية الثورية، أي الحزب الشيوعي المسلح بدراسة نظرية و تنبؤ للتطورات استناداً على النظرية الماركسية - اللينينية الكونية و القادر على قيادة الانتفاضة الثورية للطبقة العاملة.
و بالطبع، ليس من الممكن التنبؤ بكل العوامل التي يمكن أن تقود نحو حالة ثورية. فقد أبرزت التجربة التاريخية بوصفها عوامل هامة، تمظهر الأزمة الرأسمالية المتزامنة و العميقة في ترابط مع اندلاع الحرب الإمبريالية.
هذا و كانت ثورة العمال الأولى الظافرة بالنصر في روسيا نتيجة لقدرة الطبقة العاملة، بتوجيه من حزبها، على الاضطلاع بهذا الدور في الظروف المماثلة. حيث كان لينين قد تنبأ بنجاح احتمال حضور حالة ثورية في روسيا، و احتمالية بروز روسيا كحلقة ضعيفة في السلسلة الإمبريالية ضمن ظروف الحرب العالمية الأولى الامبريالية.
مسيرة البلاشفة نحو النصر في أكتوبر 1917
على الرغم من تنامي الرأسمالية بسرعة في روسيا القيصرية قبل الحرب العالمية الأولى، فقد كانت قد عاشت عناصر قوية للدولة الأوتوقراطية القديمة و على رأسها القيصر، و تواجدت مع كتلة ضخمة من صغار المزارعين في الريف، الذين أضناهم بقاء فلول هامة من العلاقات الإقطاعية.
و قادت ثورة 1905-1907إلى تشكيل مجلس الدوما، أي إحدى صيغ المؤسسات التشريعية التمثيلية مع حقوق محدودة للغاية، وهو ما لم يعني بأي حال من الأحوال الانتقال نحو نظام برلماني برجوازي نموذجي. حيث عبرت مؤسسة مجلس الدوما عن توافق بين قطاعات من البرجوازية والنظام القيصري. و على الرغم من أن إلغاء القنانة في روسيا جرى رسميا عام 1861، فقد عانت قطاعات واسعة من المزارعين في الريف من ظلم كبار ملاك الأراضي، وإجبارهم على إنجاز أعمال السخرة أو على تسليم نصف محاصيلهم.
و كانت السوفييتات قد ولدت خلال فترة ثورة 1905، باعتبارها النواة التنظيمية للعمل الثوري للطبقة العاملة في ظروف النضال المحتدم للصراع الاضرابي والصدامات الطبقية. حيث شكلت صيغة جديدة من أشكال تنظيم الطبقة العاملة مع ممثلين منتخبين عملوا بصفتهم براعم لأشكال سلطة العمال المستقبلية.
حيث قاد إنشاء مصانع ضخمة في المراكز الحساسة في المدن الروسية الكبرى مثل موسكو وسان بطرسبرغ (لاحقا لينينغراد)، إلى نمو كبير في العمل المأجور، مما جعل الطبقة العاملة القوة الاجتماعية الرئيسية في البلاد، على الرغم من عدم تفوقها العددي على مستوى سكان الإمبراطورية القيصرية و مداها.
و كان البلاشفة قد صاغوا في هذه الظروف المعقدة، خطاً استراتيجياً يهدف، من خلال تطوير الصراع الطبقي، لضمان أمرين مهمين: أ) الاستقلال السياسي للطبقة العاملة في الثورة البرجوازية الوشيكة، حتى لا تتحول البروليتاريا إلى ذيل للطبقة البرجوازية. ب) توجيه الحركة الشعبية بجملتها من قبل الطبقة العاملة (أي عبر التحالف الاجتماعي، للبروليتاريا مع صغار و متوسطي الفلاحين)، لكي يكون للثورة طابع جذري مقارنة بالعصر التاريخي، لتسهيل عملية الانتقال نحو الثورة الاشتراكية. و على هذا النحو، فقد استندت استراتيجية البلاشفة في الصراع من أجل مرور الفلاحين إلى جانب الطبقة العاملة، على خط يقول: جنبا إلى جنب مع الفلاحين بأكملهم ضد القرون الوسطى. ثم، مع الفلاحين الفقراء، و مع أشباه البروليتاريينضد الرأسمالية، و معهم أيضاً ضد أثرياء الريف.
حيث استندت هذه الاستراتيجية، من جهة، على اعتبار أن التطور الموضوعي للرأسمالية في روسيا كان متواجداً على النقيض من البنية الفوقية القيصرية المتخلفة والحفاظ على بقايا نظام القنانةفي الريف، و من جهة أخرى، على فكرة قيام عملية ثورية على المستوى الأوروبي. وفي الوقت نفسه، لم تعد الطبقة البرجوازية عام 1905الطبقة البرجوازية التقدمية في عصر الثورات البرجوازية في القرن اﻠ18واﻠ19. فعلى كل اﻷحوال فقد كانت الرأسمالية قد انتقلت سلفاً نحو عصر الإمبريالية الرجعي، عالمياً. و على الرغم من سعيها نحو ثورة سياسية، فقد كانت متخوفة منذ لحظة تشكل الطبقة العاملة أي خصمها، في صيغة قوة سياسية مستقلة.
و على هذا النحو فقد اعتبر لينين أن الإنقلاب الثوري يجب أن يشكل حكومة ثورية مؤقتة، أي "الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين"، التي كانت ستنفذ ما ورد في برنامج "الحد الأدنى"للبلاشفة (جمعية تأسيسية، حق الاقتراع العام، الإصلاح الزراعي، وما إلى ذلك). حيث كانت هذه السلطة ستتخلص جذريا من بقايا القيصرية، معطية شرارة الثورة البروليتارية في أوروبا الغربية الرأسمالية المتقدمة، التي من شأنها أن تشكل دعامة للثورة البروليتارية في روسيا. و قد ربط البلاشفة، في ذلك الوقت، الثورة البرجوازية الديمقراطية بالثورة الاشتراكية، وأكدوا على الدفاع عن المصالح الخاصة للطبقة العاملة وضرورة ممارسة ضغط مستمر على الحكومة الثورية لتوسيع مكاسب الثورة.
لقد كان بإمكان "الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين"، كما قال لينين، أن يكون لها إرادة واحدة فيما يختص بسحق الحكم المطلق، ولكن لا فيما يتعلق بالاشتراكية. حيث تنبأ لينين بتفاقم الصراع في خلجان تحالف العمال- الفلاحين ذاته، و سلطتهم، مع تطور الثورة، و هو ما سيقود في النهاية إلى الفصل التام للطبقة العاملة عن الفلاحين المتوسطين والأثرياء، بغرض انتصار البروليتاريا على عنصر البرجوازية الصغيرة، وبالطبع الانتقال نحو "ديكتاتورية البروليتاريا".
و قد صيغ خط البلاشفة هذا، في خلاف مع الانتهازيين اليمينيين في ذلك العصر، أي المناشفة، ولكن أيضا في خلاف مع مع تروتسكي الذي قلل من دور وأهمية الفلاحين. حيث اعتبر لينين أن موقف تروتسكي كان يقود إلى "إنكار دور الفلاحين"و إلى إفشال ذريع للثورة.
و قاد دخول روسيا في الحرب العالمية اﻷولى إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية. حيث تسببت الهزائم المتكررة للجيش الروسي في الجبهة، وخسائر الأراضي (كمثالَ بولندا و بلدان البلطيق) استياءاً كبيراً، ليس فقط في صفوف العمال والفلاحين الذين عانوا من ويلات الحرب، بل أيضا ضمن الطبقة البرجوازية في روسيا. و كانت واقعة مباشرة توجه دوائر القيصرية نحو ألمانيا و نحو إمكانية إبرام سلم منفصل، قد أثارت رد فعل الطبقة البرجوازية، و هو ما أسند من جانب إﻧﮔلترا وفرنسا وأدى إلى تنظيم مخططات لإسقاط القيصر. و في نفس الوقت، اندلعت انتفاضات عرقية مختلفة في القوقاز وآسيا الوسطى ضد الإمبراطورية القيصرية عام 1916.
و ترابطت مخططات الطبقة البرجوازية لإسقاط القيصر، بتحركات شعبية كبيرة و إضرابات جرت في شباط\فبراير 1917نتيجة نقص الغذاء والبطالة الجماعية و التفاقم الحاد في المشاكل الاجتماعية. حيث قاد قيام الحالة ثورية، والعمل السياسي الجماعي للعمال والفلاحين المنظمين في صفوف السوفييتات، و تفكك خطوط الجيش، في النهاية إلى إسقاط القيصر ثورياً.
لقد نشأت الحالة الثورية فوق أرضية عملية معقدة تضمنت سلسلة من العوامل الهامة: تفاقم التناقضات الإمبريالية البينية، والمعاناة التي راكمتها الحرب الإمبريالية خلال السنوات الثلاث السابقة على عاتق الفئات الشعبية، و تزعزع تحالف القيصرية مع الطبقة البرجوازية الذي التي لم يعد يمكِّن من هم "في اﻷعلى"من الحكم كما من قبل، والعمل السياسي والتنظيمي للبلاشفة قبل الحرب وأثنائها، في صفوف الطبقة العاملة والجنود.
حيث كانت نتيجة التفاقم الفجائي للتناقضات بين الطبقة البرجوازية والقيصرية في ظروف الأزمة والحرب الإمبريالية، و الحتمية التي نوه لها البلاشفة، قد أدت إلى امتلاك الطبقة البرجوازية لليد العليا في ثورة فبراير.
و كانت الحكومة المؤقتة الديمقراطية قد ألفت من ممثلي الأحزاب الليبرالية البرجوازية في روسيا و شكلت أداة للسلطة البرجوازية. ومع ذلك وفي الوقت نفسه، فقد أحضر النضال السياسي الجماعي للعمال والفلاحين، إلى الواجهة تنظيم الجماهير المسلحة التي شاركت في إسقاط القيصر من خلال السوفييتات (مجالس الممثلين).
و في ذلك الوقت، كان المناشفة ( تيار انتهازي) و الاشتراكيون-الثوريون ( "اشتراكيون برجوازيون صغار ثوريون")، يسيطرون ضمن السوفييتات، و هم الذين طرحوا واجب دعم الحكومة المؤقتة. و في الحاصل، تبدَّى وضع سماه لينين ﺑ"ازدواجية السلطة"لوصف لحظة انتقالية من العملية الثورية، حيث كانت البرجوازية قد استحوذت فعلاً على السلطة، لكنها لم تكن قوية بقدر يمكنها من تفكيك التنظيم المسلح للجماهير الشعبية (كالسوفييتات التي كانت تمتلك حرسها الخاص).
و مع تأكد لينين، من التوافق القائم بين الحكومة المؤقتة الديمقراطية والسوفييتات، اعتقد بوجوب نشر سياسة محددة لإقناع العمال من خلال تجربتهم بالحاجة إلى:
أ) عدم دعم الحكومة الديمقراطية المؤقتة، التي كانت حكومة الطبقة البرجوازية.
ب) أن يدركوا أن الحرب المستمرة كانت إمبريالية، و أنها حرب نهب وغير عادلة.
ج) التخلي عن المناشفة والاشتراكيين الثوريين، من أجل تغيير الميزان في صالح البلاشفة ضمن السوفييتات.
د) استيلاء السوفييتات على السلطة كمقدمة لحل جميع المطالب الملحة للفئات الشعبية (السلم، الخبز، الأرض).
و كان لينين خلال "موضوعات أبريل"وغيرها من كتابات تلك الفترة، قد قدم تقييما واضحا جدا حول طابع ثورة فبراير.
و كان قد قدَّر أن اﻷيادي الممسكة بالسلطة قد تغيرت و أنها انتقلت إلى أيدي البرجوازية. و ذكَّر أن القضية الأساسية في استراتيجية البلاشفة، حتى حينها، أي مسألة التحالف الاجتماعي بين العمال والفلاحين قد أنجزت سلفاً عبر صيغة السوفييتات، بمعزل عن واقعة انجراف و ثقة غالبية البروليتاريا ضمنها بممثلي الفئات البرجوازية الصغيرة التي كانت تعمل بمثابة ذيل للطبقة البرجوازية.
و في رد لينين خلال مواجهة موقف "البلاشفة القدامى" (كامينيف، زينوفييف و غيرهم) القائل بعدم اكتمال الثورة البرجوازية، و أن سلسلة من الأهداف ( مثل الجمعية التأسيسية، الإصلاح الزراعي)، سجَّل أن القضية الرئيسية في كل ثورة هي مسألة السلطة. و بهذا المعنى، فقد كانت الثورة البرجوازية قد انتهت.
و في الحاصل فقد كان من المطلوب، تغيير استراتيجية البلاشفة. و كانت القضية الأولى والأساسية اعتباراً من شباط\ فبراير و صاعدا، متمثلة في رفع وعي البروليتاريا، وامتلاكها للطليعة في سياق التحالف الاجتماعي. حيث كان يتطلب تحقيق أمر كهذا، خوض صراع داخل الهيئات الثورية بعينها (السوفييتات) والإلتفاف مع أشباه البروليتاريين و فقراء الفلاحين من أجل تمهيد الأرضية للثورة الاشتراكية.
و عندما شرعت الحكومة الديمقراطية المؤقتة في يوليو\تموز بتطبيق تدابير قمع صارمة ضد البلاشفة والحركة العمالية، سحب البلاشفة شعار "كل السلطة للسوفييتات". و كان لينين قد تنبأ خلال هذه الفترة الحاسمة وخاصة بعد وقوع الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال كورنيلوف، أن من شأن الوضع الموضوعي أن يؤدي إما نحو النصر الكامل للدكتاتورية العسكرية البرجوازية او إلى انتصار انتفاضة العمال المسلحة. و شدد الصراع ضد الأوهام بصدد الانتقال البرلماني السلمي نحو الاشتراكية، وأعلن أن غرض الانتفاضة المسلحة يمكن أن يكون حصراً، انتقال السلطة إلى أيدي البروليتاريا، بدعم من الفلاحين الفقراء، من أجل تحقيق الأهداف البرنامجية للحزب.
و في سبتمبر 1917، بعد حيازة البلاشفة على اﻷغلبية ضمن سوفييتات بطرسبورغ وموسكو استعادوا شعار "كل السلطة للسوفييتات"مع محتوى جديد. لا كما كان من قبل شعارا من شأنه كشف توافق المناشفة و تصالحهم مع الحكومة البرجوازية للإسهام في تغيير ميزان القوى، بل كشعار لإسقاط الحكومة المؤقتة، وشعار للإنتفاضة الثورية. حيث نشط البلاشفة في هذا الاتجاه دون انتظار قيام انتخابات الجمعية التأسيسية، و لا انعقاد مؤتمر السوفييتات.
حيث كان حزم لينين و من دعم مواقفه من قيادة البلاشفة، قد قاد في النهاية إلى قيام ثورة اشتراكية ظافرة في 25أكتوبر\تشرين الأول (7نوفمبر\تشرين الثاني، وفقا للتقويم الجديد) 1917.
و أظهرت تجربة ثورة أكتوبر أن السلطة العمالية السوفييتية، و ديكتاتورية البروليتاريا، هي من واجهت قضايا العمال الساخنة (الأرض والخبز والسلم) لا السلطة البرجوازية "الوسيطة"التي لا يمكن أن توجد في الواقع. حيث فتحت السلطة السوفييتية الطريق أمام إلغاء علاقات الإنتاج الرأسمالية.
و كان الحزب البلشفي، و بغرض الوصول نحو الثورة الظافرة قد قام و مع مساهمة حاسمة من قبل لينين، ببذل محاولة نظرية و سياسية مستمرة لتطوير رؤيته الاستراتيجية، من أجل تعميقها و التنبؤ بالتحولات السريعة في التوازن بين الطبقات المتناحرة، كما و في والنفوذ السياسي داخل الطبقة العاملة ذاتها. حيث تعكس التحولات في خط السياسة الثورية من عام 1905حتى أكتوبر1917، نضوج معالجة استراتيجيته.
و لم تكن هذه المحاولة بالسهلة. فبدءا من الانفصال عن المناشفة عام 1903في المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وتشكيل حزب مستقل عام 1912، جرت فولذة البلاشفة في ظروف صراع الانفصال الأيديولوجي والسياسي والتنظيمي عن قوى الانتهازية.
حيث كانت مسيرتهم حتى النصر، نتيجة معالجة نظرية وسياسية مستمرة و مجهدة. و تمثل إسهام حاسم في صياغة استراتيجية الثورة الاشتراكية في دراسة خصائص الرأسمالية الاحتكارية (عبر عمل "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية")، و صياغة الموقف تجاه الدولة البرجوازية وطبيعة سلطة العمال، أي ديكتاتورية البروليتاريا في ( "الدولة والثورة") مع التعميق اﻷشمل للتفكير الجدلي المادي وتحليل التطورات عبر عمل ("المادية و المذهب النقدي التجريبي")، في حين كان قد سبقها تحليل اقتصادي لروسياالقيصرية (عبر عمل "تطور الرأسمالية في روسيا").
حيث أضائت هذه المعالجات إمكانية التملك الاجتماعي لوسائل الإنتاج الممركزة في عصر الرأسمالية الاحتكارية كذا و اﻹمكانيات الناشئة من واقع التنمية الاقتصادية والسياسية الغير متكافئة وتفاقم التناقضات الامبريالية البينية لكسر سلسلة الإمبريالية في حلقتها الضعيفة، و مباشرة محاولة بناء الاشتراكية في بلد واحد أو مجموعة من البلدان.
و خلال تطوير لينين لاستراتيجية البلاشفة، تواجه عمليا مع مواقف بليخانوف، كاوتسكي، ومارتوف، كما و مع كوادر من البلاشفة الذين اعتقدوا بوجوب إجبار روسيا على مرور مرحلة ما يسمى بإنضاج الرأسمالية.
وكانت هذه المواقف منتشرة وقوية في روسيا ما قبل الثورة. و كانت مستندة على الثقل النوعي الكبير للإنتاج الزراعي في الاقتصاد الروسي، و على غياب المكننة و تأخر الكهربة و بقايا ما قبل الرأسمالية في جزء كبير من الإمبراطورية القيصرية. حيث أضاء لينين تطور العلاقات الرأسمالية، و نشوء مجموعات احتكارية في المدن الكبيرة وإمكانية تقديم علاقات الانتاج الاشتراكية لزخم كبير لتطور القوى المنتجة.
و من الطبيعي أن نضوج استراتيجية البلاشفة، لم يكن عملاً ذي فصل واحد. فقد استحوذ حزب البلاشفة على القدرة على استخلاص الاستنتاجات من المبادرة الثورية التي طورتها الجماهير في لحظات احتدام الصراع الطبقي و من استخدام المؤسسات التي خلقتها اﻷخيرة (أي السوفييتات) في صالح الانتفاضة الثورية.
حيث أظهر الحزب في كل مرحلة من مراحل تطور الصراع الطبقي، قدرة مميزة على خدمة استراتيجيته مع سياسة مناسبة، و تحالفات و شعارات و مناورات، كذا و عبر مواجهة صائبة مع المناشفة والقوى الانتهازية الأخرى. و استخدم عبر أفضل وجه التجربة الكفاحية التي اكتسبها أعضائه خلال المعارك الطبقية القاسية في كامل فترة 1905 -1917. وعمل بثبات وحزم لتغيير موازين القوى في الحركة النقابية العمالية و تمكن من تغيير هذه الموازين في أكبر النقابات في سانت بطرسبرغ وموسكو في فترة الحرب العالمية الأولى، وخصوصا، زيادة نفوذه تدريجيا ضمن هيئات العمال والجنود المنتفضين (السوفييتات). حيث منحت الجهوزية النظرية والعملية كذا و الممارسة الكفاحية، حزب البلاشفة إمكانية فولذة روابطه الثورية مع القوى العمالية الشعبية، وعدم الخضوع للصعوبات العملية التي واجهها في عمله، كالعنف الممارس من قبل الدولة وشبه الدولة.
هذا و لم يواجه البلاشفة في الممارسة العملية خلال المسيرة الصعبة 1905-1917، فحسب عنف الدولة القيصرية، بل أيضاً، نشاط الجماهير الشعبية المتخلفة المضاد للثورة. حيث نموذجي كان مثال المئات السود في ثورة عام 1905، التي أقر لينين مواجهتها العملية بمثابة ميدان تدريب للفرق العمالية الكفاحية. حيث جبارة كانت المحاولة التي قام بها البلاشفة من أجل إنضاج الوعي الطبقي للعمال في تلك السنوات. ويكفي أن نتصور أن الحشود كانت تحمل أيقونات القديسين والقيصر نفسه مرددة التراتيل، قبل تعرضها لعدوان مسلح من قبل حرس القيصر، خلال إحدى أكبر المظاهرات في بتروغراد عام 1905.
و كانوا قد واجهوا على وجه الخصوص في الفترة الحرجة من فبراير إلى أكتوبر 1917، سياسيين برجوازيين محنكين مثل كيرينسكي، الذي كانوا يمتلكون قدرات كبيرة على تضليل الجماهير. لقد ظفر البلاشفة بالنصر، لأنهم عملوا بصبر و جرأة مع مخطط إعداد سياسي، و تنظيمي وعسكري للانتفاضة الثورية.
هذا و أكدت الخاتمة المنتصرة لثورة أكتوبر، صوابية استراتيجية الثورة الاشتراكية و سلسلة من المبادئ المتعلقة بإسقاط الرأسمالية على نحو ثوري: أي الدور القيادي للحزب الشيوعي الثوري، و عمله على أساس مبدأ المركزية الديمقراطية، وهو المتمثل بعناصر أساسية هي الطابع الجماعي وضمان العمل الموحد. و ضرورة توحيد الطبقة العاملة ضد سلطة رأس المال، ضرورة جذب قطاعات من الفلاحين و غيرهم من الشرائح الوسطى الأخرى نحو الثورة، كما و تحييد غيرهم. و السمة المتخلفة و الرجعية للطبقة الرجوازية، و ضرورة عدم المشاركة أو دعم حكومة قائمة فوق أرضية الرأسمالية، وعدم وجود أشكال انتقالية للسلطة بين الرأسمالية والاشتراكية، و ضرورة سحق الدولة البرجوازية.
إن دراسة استراتيجية البلاشفة في ثورة أكتوبر كما و تطور صياغتها (من عام 1905 -حتى 1917) يؤدي إلى نتائج جوهرية. و يعطي خبرة قيمة من تقارب الشيوعيين مع عمال و شرائح شعبية ذات وعي طبقي غير ناضج. حيث تمكن البلاشفة من الجمع و بنجاح بين دراسة التطورات في الداخل و دولياً، والعمل النظري و دراسة الخبرة القاسية للصراع الطبقي في روسيا. حيث ضروري هو هذا الربط الآن، أكثر من أي وقت مضى، لكي يتمكن الشيوعيون من العمل بنجاعة في ظروف معقدة وصعبة، حيث سلبي هو ميزان القوى.
عن استراتيجية الحركة الشيوعية الأممية في القرن اﻠ20
لقد شكل الحزب البلشفي و ثورة أكتوبر استمرارية تاريخية لعمل الجناح الماركسي الثوري داخل اﻷمميتين الأولى و الثانية. و أسهما في اندلاع الانتفاضات العمالية التي أعقبتها في السنوات المقبلة، كتلك في برلين، بودابست، تورينو، و التي هزمت. حيث سرَّعت ثورة أكتوبرعموماً، تطوير الحركة الشيوعية الأممية و قادت إلى إنشاء الأممية الثالثة الشيوعية (1919 -1943)، التي أقيمت في مواجهة قوة رأس المال على المستوى الاممي. و كانت ضرورة إيجاد انفصال واضح عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي خانت الطبقة العاملة في الحرب العالمية الأولى و تشديد الصراع ضدها، قد قادت إلى صياغة الشروط اﻠ21لانضمام حزب ما لعضوية الأممية الثالثة، و ذلك في مؤتمرها الثاني عام 1920، و هي الشروط المتعلقة بضمان الطابع الثوري للاحزاب.
و مع ذلك، فضمن المسار لم تُستوعب الخبرة اﻹيجابية لثورة أكتوبر و لم تسيطر على مدى وجود الأممية الشيوعية. بدلا من ذلك، سادت و من خلال عملية متناقضة، رؤية استراتيجية وضعت بشكل عام تعيين هدف يتمثل في سلطة وسيطة أو حكومة بين السلطة البرجوازية والعمالية، باعتبارها انتقالية نحو الاشتراكية. و كان تعليل هذا الخيار في كثير من الأحيان، يجري على أساس دراسة استراتيجية البلاشفة الأولية وحتى أنها طبقت في اقتصادات رأسمالية و دول رأسمالية برجوازية متشكلة، و هي التي لم تشهد تاريخيا ظروفاً مماثلة لظروف روسيا عام 1905.
و بالتأكيد تحتاج أسباب هذه المسيرة دراسة وافية و أكثر عمقاً، و هي التي نواصلها كحزب. ومع ذلك، فبإمكاننا أن نشير سلفاً إلى بعض العوامل والصعوبات التي ساهمت في سيطرة معالجات استراتيجيات إشكالية.
بعد سنوات قليلة من انتصار أكتوبر، تراجعت موجة النهوض الثوري للحركة العمالية، خاصة بعد هزيمة الثورة في ألمانيا عام 1918و في المجر عام 1919، في حين لم يُستغل نشوء ظروف حالة ثورية من قبل بعض الأحزاب الشيوعية في ذلك الوقت. و من ثم، بعد عام 1920، تجاوزت البلدان الرأسمالية القوية مؤقتا الأزمة الاقتصادية واستقرت. حيث ظلت غالبية العمال المنتظمين نقابياً محصورة في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، و هي التي شهد بعضها استمرار تفاقم الصراع داخلها، كأحزاب إيطاليا وألمانيا.
و في الوقت نفسه، تفاقمت المواجهة داخل الحزب الشيوعي لعموم روسيا (البلشفي) بين القوى التي دعمت استحالة بناء الاشتراكية دون انتصار الثورة الاشتراكية في الغرب الرأسمالي المتقدم (تروتسكي، و غيره) والقوى التي ترأسها ستالين، و التي دعمت وجوب تسبيق السلطة السوفيتية لتوجه البناء الاشتراكي.
و كان قد أضيف إلى تراجع الموجة الثورية، المرتبط باحتدام الصراع الطبقي في الاتحاد السوفييتي والعقبات الواجب تجاوزها في فترة زمنية قصيرة جدا، التهديد المتنامي في اندلاع حرب عدوان امبريالي جديد، ضد الاتحاد السوفييتي في عقد 1930. حيث فاقم النقاش حول مواجهته من التناقضات و أوجه القصور النظرية خلال معالجة الاستراتيجية الثورية المناسبة.
و تتعلق المحاولة المعقدة للسياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي في تأخير العدوان الإمبريالي قدر اﻹمكان واستغلال التناقضات بين المراكز الإمبريالية في هذا الاتجاه، بتغييرات و تغيرات كبيرة في خط اﻷممية الشيوعية، كانت قد لعبت دورا سلبيا في مسار الحركة الشيوعية الأممية خلال العقود المقبلة. حيث كانت التغييرات مرتبطة بمواجهة التيار الفاشي، و بالموقف من الاشتراكية الديمقراطية و كما و بالديمقراطية البرجوازية نفسها. حيث جرى تقسيم سياسي للتحالفات الإمبريالية في تلك الفترة، إلى تحالفات هجومية صنفت كفاشية، و تحالفات دفاعية صنفت ضمنها القوى البرجوازية الديمقراطية.
و في غير محله على وجه الخصوص، كان التقييم القائل بوجود جناح يساري و يميني في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في عقد الثلاثينات، والذي انبثق عنه التحالف معها، و هي الواقعة التي قللت من شأن التحول الكامل لهذه الاحزاب إلى أحزاب للطبقة البرجوازية. حيث استمر اعتماد هذا التقسيم الخاطئ حتى بعد الحرب العالمية الثانية.
حيث حصرت هذه التغييرات موضوعياً نضال الحركة العمالية تحت راية الديمقراطية البرجوازية. وبالمثل، فإن تقسيم المراكز الإمبريالية إلى محبة للسلم و حربية، فرض تعتيماً على المذنب الحقيقي تجاه الحرب الإمبريالية وصعود الفاشية، أي الرأسمالية الاحتكارية. أي أن هذا التقسيم لم يضئ المهمة الاستراتيجية الملحة للأحزاب الشيوعية في الجمع بين حشد القوى من أجل صراع التحرر الوطني أو النضال ضد الفاشية، مع النضال من أجل إسقاط السلطة البرجوازية، مع استغلال ظروف الحالة الثورية المتشكلة في عدد من البلدان.
و على نحو أعم، قُلِّل من تقدير سمة العصر خلال قيام المعالجات الاستراتيجية في الأممية الشيوعية، وسيطر في تحديد طابع الثورة في بلد ما على معيار موقع هذا البلد الرأسمالي في النظام الإمبريالي الدولي. أي أن تبني المستوى المتدني لتطور القوى المنتجة في بلد ما، مقارنة مع المستوى اﻷعلى الذي وصلت إليه القوى القيادية في النظام الإمبريالي الدولي، و ميزان القوى السلبي على حساب الحركة العمالية الثورية، باعتبارها معاييراً لتحديد سمة الثورة، كان أمراً خاطئاً.
حيث قللت هذه المقاربة المنهجية المخطئة، من شأن قدرة علاقات الإنتاج الاشتراكية على إعطاء دفع كبير و تحرير و تطوير القوى المنتجة في بلد رأسمالي. فعلى سبيل المثال، فقد جرى تجاوز التخلف الفعلي في الكهربة، الذي ورثه الاتحاد السوفييتي بشكل سريع جدا، كذا و تجاوز ظاهرة الأمية. و كانت سلطة العمال قد نظمت خدمات إجتماعية لم يسبق لها مثيل في عصرها.
إن إلغاء التنمية غير المتكافئة بين الاقتصادات الرأسمالية والعلاقات غير المنصفة بين الدول، هو غير ممكن فوق أرضية الرأسمالية. و في نهاية المطاف، تتحدد سمة الثورة في كل بلد رأسمالي بشكل موضوعي، من التناقض اﻷساسي الذي هي مدعوة لحله، بمعزل عن التغير النسبي لموقع كل بلد في النظام الإمبريالي الدولي. حيث تنبثق السمة الاشتراكية للثورة و مهامها، من احتدام التناقض الأساسي بين رأس المال - العمل في كل بلد رأسمالي في عصر الرأسمالية الاحتكارية.
و كانت مقاربة هدف السلطة العمالية تجري في سلسلة من معالجات أحزاب شيوعية، وفق معيار موازين القوى، لا التحديد الموضوعي للعصر التاريخي الذي نعيشه، و هو الذي يتحدد على أساس ماهية الحركة المتواجدة كل مرة على رأس التطور الاجتماعي، أي في الحركة نحو التحرر الاجتماعي.
و يلخص لينين في عمله "تحت راية أجنبية"، كالتالي عصر الرأسمالية الاحتكارية: "إن العصر الذي بدأ لتوه يضع الطبقة البرجوازية في ذات وضع الإقطاعيين في العصر الأول (أي عصر النهوض الثوري للطبقة البرجوازية ، عبر الثورة البرجوازية الفرنسية عام 1789). إنه عصر الإمبريالية والصدمات الإمبريالية والصدمات المنبثقة عن الإمبريالية".
إن لسمة العصر بعد عالمي، بمعزل عن الاختلافات من بلد إلى بلد في درجة و أسلوب نضوج الظروف المادية للانتقال إلى الاشتراكية. حيث يتمثل المؤشر اﻷساسي لنضوج الرأسمالية في تركيز وتوسيع نطاق العمل المأجور والطبقة العاملة التي تتعرض للاستغلال الرأسمالي.
عن بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي
لقد أحضرت ثورة أكتوبر نحو المشهد تنظيماً أرقى للمجتمع، و هو مختلف جذريا عن جميع النظم التي سبقته تاريخيا والتي تمثل قاسمها المشترك في استغلال الإنسان للإنسان.
حيث لم يكن باستطاعة أي إنسان في الاتحاد السوفييتي أن يضع شخصاً آخر "ليعمل عنه". لقد كان إلغاء تأجير عمل الغير، أهم نتيجة اجتماعية لثورة أكتوبر، و الرحم الذي ولد جميع المكاسب الجانبية في حياة العمال. حيث تحققت انجازات اجتماعية كبيرة على مدى عدة عقود عبر التخطيط المركزي باعتباره علاقة إنتاج اجتماعية من أجل استخدام الوسائل المملوكة اجتماعياً.
و في الاتحاد السوفييتي، أمِّنت لأول مرة ممارسة حق العمل، مع القضاء على البطالة كظاهرة اجتماعية. و وُضعت الأسس للقضاء على المظاهر المتنوعة للتمييز الاقتصادي والسياسي -الايديولوجي والاجتماعي بحق المرأة، و خاصة في مناطق ذات تخلف كبير في هذا المجال. و تطورت العلوم، والتعليم المجاني على جميع المستويات و خدمات الصحة النوعية و المجانية للشعب بأكمله، على نحو كبير السرعة، مع ضمان التواصل العام و إمكانية اﻹسهام في مجالي الثقافة والرياضة.
و أيضا، أنشئت لأول مرة في التاريخ مؤسسات تضمن المشاركة الجوهرية للعاملين في إدارة جوانب مجتمعهم، مع إخراج الجماهير من هامش الحياة السياسية والاجتماعية. حيث تحول و لأول مرة، حق العامل والشاب في التصويت و الترشح إلى حق جوهري مقارنة بالشكلي في ظل الرأسمالية. وكانت هذه المكاسب قد شكلت نقطة مرجعية وساهمت، إلى جانب عوامل أخرى، في انتزاع المكاسب من قبل الحركة العمالية الشعبية في الدول الرأسمالية. حيث ثبت عمليا أنه تثوير العلاقات الاجتماعية بعينها وعلاقات الفرد مع المجتمع هو في تناسب مع قدر تعمُّق علاقات الإنتاج الشيوعية. و ثبتت قدرة علاقات الإنتاج الاشتراكية على تأمين الحقوق الاجتماعية الجماعية.
هذا و تتضاعف أهمية المكاسب المذكورة أعلاه إذا ما وضعنا في الحسبان، الظروف التي تحققت ضمنها. حيث كانت المسافة التي تفصل بين روسيا ما قبل الثورة عن الدول الرأسمالية القوية، كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، كبيرة جدا، و كانت هذه الدول متفوقة بشكل كبير في تطور القوى المنتجة ومستوى إنتاجية العمل.
و كانت الدول الرأسمالية القوية قد أسندت تنميتها على استغلال شعوبها والشعوب الأخرى (إرهاب أرباب العمل، النظام الاستعماري، العنف ضد السكان الأصليين، واستغلال عمالة الأطفال). وعلى النقيض من ذلك، حاولت السلطة السوفييتية الفتية إنشاء الأسس الاقتصادية للاشتراكية عبر قواها الذاتية، و خلال ظروف احتدام الصراع الطبقي، أي في ظروف رد فعل كفاحي من جانب البرجوازية في داخل البلاد كان يجري في ترابط مع المحاولات النشطة لإسقاط سلطة العمال من الخارج. و كانت المكاسب قد تحققت في الاتحاد السوفييتي فيظل ظروف تقويض فاعل للإنتاج و تهديد دائم بالتدخل الخارجي المسلح، و اغتيالات ممارسة بحق البلاشفة و غيرهم من طليعيي العمال و الفلاحين
و نموذجية على ما ذكر هي فترات: غزو 14دولة- بمشاركة اليونان خلال حكم رئيس الوزراء إلِفثيريوسفينيزيلوس – لأوكرانيا عام 1919لقمع الثورة. و فظائع الثورة المضادة التي ردت الطبقة البرجوازية بها داخل روسيا السوفييتية على ما وصف "هجوم الاشتراكية ضد قوى الرأسمالية"في الخطة الخمسية الأولى في الفترة 1929- 1934 (التي شملت عملية التصنيع و تجميع الإنتاج الزراعي و إقامة التعاونيات)، ثم خلال فترة ما قبل وخلال الحرب الإمبريالية العالمية الثانية، حيث خدم موقف الدول الرأسمالية – بالتوازي مع الأهداف المحددة لكل منها على حدة- هدفها المشترك المتمثل في إسقاط الاتحاد السوفييتي.
هذا و وضعت تبعات الحربين العالميتين الأولى والثانية عقبات إضافية في البناء الاشتراكي، باعتبار أن ما من بلد شهد دماراً بهذا الحجم، في حين لم يشهد الخصم الرئيسي للاتحاد السوفييتي، في سياق المنافسة العالمية بين الاشتراكية و الرأسمالية، أي الولايات المتحدة، حرباً على أراضيها .
و مع مقاربة هذه الإنجازات، يجب أن نضع في الاعتبار أن المجتمع السوفييتي لم يكن مجتمعاً شيوعياً ناضجاً، و متشكلا بالكامل و"مزهراً"في جميع جوانبه، بل مجتمعاً شيوعياً في مرحلة باكورة تطوره، مجتمع في طور تشكل شيوعي.
و يستحيل على ولادة وتطور المجتمع الشيوعي ألا يحملا إلى حد كبير، علامات من الماضي الرأسمالي، ولكن أيضا من عواقب هيمنة الرأسمالية في جميع أنحاء العالم. حيث شكلت هذه العواقب-التي كانت تترابط في جميع مجالات الحياة الاجتماعية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية – فلول المجتمع القديم في أحشاء الجديد، و هي التي لم تجري معالجتها جذريا حتى حينها، حيث لم تكن قد تحولت بالكامل كافة العلاقات الاجتماعية، نحو الشيوعية.
و يتستر النقد البرجوازي و البرجوازي الصغير تجاه تاريخ الاتحاد السوفييتي، عمدا عن أننا بصدد تاريخ طور باكورة المجتمع الشيوعي. ويشير إلى نقاط الضعف والأخطاء من وجهة نظر المجتمع الشيوعي المثالي، بهدف التشهير و إعاقة النشاط العمالي الثوري.وفي الوقت نفسه، تخترع الدعاية البرجوازية المتنوعة جرائم، مثل تعميدها حق سلطة العمال في الدفاع عن نفسها ضد التخريب الخارجي، كجريمة، في وقت قيامها بتزوير التاريخ، و المساواة بين الشيوعية والفاشية.
و على الرغم من ذلك، لا تستطيع الدعاية البرجوازية إخفاء واقعة تفوق التخطيط العلمي المركزي لتطوير القوى المنتجة، فوق الارضية الصلبة التي تضمنها سلطة العمال والملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج والمصانع ومصادر الطاقة المحلية، والثروة الباطنية، و الأرض، والبنية التحتية. حيث يُثبت تاريخ الاتحاد السوفييتي ماهية ما يستطيع العمال تحقيقه عندما يصبحون سادة وسائل الإنتاج والثروة الاجتماعية و عندما يحتازون على السلطة السياسية. و تبرز هذه الأخيرة منتجي الثروة كسادة فعليين، لا الديمقراطية البرجوازية البرلمانية التي هي عبارة عن سلاح السيطرة الرأسمالية لإخضاع الطبقة العاملة.
حيث غير مسبوقة للغاية هي نتائج التخطيط العلمي المركزي للسلطة العمالية، كالقضاء على البطالة، والتخصص السريع والفعال للقوى العاملة، وتوزيعه الصائب على الاقتصاد إجمالاً، والإنجازات في مجال استكشاف الفضاء، وتحويل الصناعة السلمية إلى حربية عشية الحرب العالمية الثانية، إذا ما أخذنا في الاعتبار أيضا، حقيقة تخلف عدة مناطق و عدم تكافؤ التطور الرأسمالي الذي كان مسيطراً داخل روسيا القيصرية. حيث هائلة كانت بالفعل، المسافة التي غطتها السلطة العمالية في داخل البلاد و على المستوى الدولي، على مستوى تطوير القوى المنتجة.
كيف ولماذا وصلنا الى الثورة المضادة و إلى إسقاط البناء الاشتراكي
لم يتقدم مسار بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي بنحو مستقيم، و صعودا بسلاسة. و من أجل قيامنا بتقييم نقدي للتجربة الإيجابية والسلبية لأول محاولة للبناء الاشتراكي في التاريخ من الضروري التمييز بنحو وجيز لمحطاتها التاريخية الأساسية.
بعد التدخل الخارجي والحرب الطبقية الأهلية (1917 – 1922) المدمرة لقاعدة البلاد الإنتاجية والسياسة الاقتصادية الجديدة (1922 - 1929) -التي تلتها كتراجع مؤقت في تلك الظروف المعينة – أطلقت صياغة الخطة الخمسية الأولى عام 1929، بداية هجوم قوى الاشتراكية. حيث خيض اعتباراً من هذه الفترة حتى الحرب العالمية الثانية و بنجاح عموماً في الاتحاد السوفييتي، الصراع من أجل تطوير علاقات الإنتاج الشيوعية، وإلغاء العمل المأجور و سيطرة قطاع الإنتاج المملوك اجتماعيا على أساس التخطيط المركزي. وكانت هذه المعركة قد خيضت بنجاح، على الرغم من واقع ظروف الحصار الإمبريالي و تهديد الحرب – في ترابط مع إرث التخلف الطويل – التي فرضت تسريع عملية بناء العلاقات الجديدة.
حيث طُوِّرت في ذلك الوقت المؤسسات الجديدة للمشاركة العمالية، والتي كانت نواتها متواجدة في البداية في مواقع العمل، و هي العلاقة السياسية التي اختُرقت متراجعة في وجه صعوبات موضوعية موجودة، كما و ضغوط ذاتية. و ذلك تحت ضغط التحضير للمساهمة الفعالة للشعب بأكمله في الحرب المقبلة، و قام الدستور السوفييتي عام 1936بتعميم حق التصويت عن طريق الاقتراع السري العام، على أساس مكان الإقامة. و خفضت أهمية اجتماعات ممثلي كل وحدة إنتاج التي كانت تشكل أنوية السلطة العمالية. حيث زادت من الناحية العملية، صعوبة استدعاء و سحب الممثلين من أجهزة الدولة العليا.
و بعد الحرب العالمية الثانية، طرحت على حد السواء عملية إعادة البناء كما و التطوير اﻷبعد للعلاقات الشيوعية، متطلبات و تحديات جديدة كانت تحتاج إلى قيام تكييف للاستراتيجية الثورية. و كان اﻹتجاه المناهض للسوق قد سيطر بعد السنوات الأولى للحرب، داخل حزب الشيوعي السوفييتي- على الرغم أوجه ضعفه و قصوره النظري – و ظل ثابتاً على هدف تطوير العلاقات الشيوعية، والقضاء المخطط على وجوه عدم المساواة، و على البضاعية في الإنتاج الزراعي (بالترابط مع هدف تحويل المزارع الجماعية - التعاونيات إلى الملكية الاجتماعية).
وعلى الرغم من نجاح الخطة الاقتصادية الأولى بعد الحرب، كان الإنتاج الزراعي قد سجَّل تأخيراً.و حضرت بعض المشاكل في نتائج التخطيط المركزي، بما في ذلك ضمن النسب بين القطاعات المنتجة.
و أظهرت الحياة عدم وجود حيازة جماعية لزخم نظري قادر على تكييف الاستراتيجية الشيوعية مع التحديات التي فرضها المستوى الجديد من تطور الإنتاج الاجتماعي. حيث لم تفسر المشاكل التي حضرت، بشكل صحيح و لم تواجه فوق محور تعزيز و توسيع العلاقات الشيوعية.
حيث فُسِّرت على أنها جوانب ضعف لا مفر منها و على أنها من طبيعة التخطيط المركزي، لا كنتيجة تناقضات ناجمة عن فلول الماضي و نتيجة أخطاء ناجمة عن خطة غير معالجة علمياً. و على هذا النحو، بدلا من البحث عن الحل نحو اﻷمام أي في توسيع وتعزيز علاقات الإنتاج و التوزيع، الشيوعية، جرى البحث نحو الوراء، عبر استخدام أدوات و علاقات الإنتاج الرأسمالي. حيث بُحث عن الحل في توسيع السوق، و "اشتراكية السوق".
و يتميز المؤتمر اﻠ20للحزب الشيوعي السوفييتي (1956) كنقطة تحول، لأن ضمنه و عبر مطية ما يسمى "عبادة الأفراد"تبنيت سلسلة من المواقف الانتهازية المتعلقة بقضايا استراتيجية الحركة الشيوعية، والعلاقات الدولية، و بقضايا الاقتصاد على نحو جزئي. حيث ضعف كِلا الإدارة و التخطيط المركزيان.و بدلا من تخطيط تحول الكولخوزات إلى سوفوخوزات و بشكل أساسي أن يبدأ تمرير الانتاج التعاوني- الكولخوزي نحو سيطرة الدولة، بدأ عام 1958تمرير ملكية الجرارات وآلات أخرى إلى الكولخوزات، و هو الموقف الذي كان قد رُفض من قبل.
و بعد سنوات قليلة، بدءا من ما يسمى ب "إصلاح كوسيغين" (1965) اعتمدت مقولة "الأرباح التشغيلية"البرجوازية لكل وحدة إنتاج على حدة مع ربط رواتب المدراء و العمال بها. و تم استبدال تقدير إنتاجية وحدات الإنتاج الاشتراكية من حيث حجم الإنتاج بتقدير قيمة منتجها. و تم فصل عملية التراكم لكل وحدة اشتراكية، عن التخطيط المركزي، مما أدى إلى إضعاف الطابع الاجتماعي لوسائل الإنتاج و لاحتياطات المنتجات. و بالتوازي مع ذلك، جرى حتى عام 1975، تمرير كل مزارع الدولة و السوفخوزات نحو نظام الادارة الذاتية،الكامل. حيث أدت كل هذه التدابير لخلق مقدمات الاستحواذ و الملكية الفرديين، و هي العلاقات التي كانت محظورة قانونيا.
و ازادت الفوارق في دخل العمل بين العمال والمديرين في كل مؤسسة، ولكن أيضا بين العاملين في مؤسسات مختلفة. و عززت المصلحة الفردية على حساب المصلحة الاجتماعية وتلقى الوعي الشيوعي للطمة، كذا و موقف حماية وتعزيز الملكية الاجتماعية.
و ظهر ما يُعرف ب"رأس مال الظل"كنتيجة ليس فقط عن اﻹثراء الناجم عن الأرباح التشغيلية، و بل أيضا عن السوق "السوداء"، وأعمال إجرامية للاستحواذ على المنتج الاجتماعي، وهو الذي سعى إلى التوظيف بشكل قانوني كرأس مال في الإنتاج، أي خصخصة وسائل الإنتاج و تأجير عمل الغير، و إعادة تنصيب الرأسمالية. حيث شكل مالكوه القوة الاجتماعية المحركة للثورة المضادة.
في نفس الفترة تقريبا، أعيد النظر أيضاً بالرؤية الماركسية - اللينينية تجاه الدولة العمالية. هذا و وصف المؤتمر اﻠ22للحزب الشيوعي السوفييتي (1961) دولة الاتحاد السوفييتي كدولة "كل الشعب"والحزب الشيوعي باسم "حزب كل الشعب". حيث قادت هذه المواقف إلى إضعاف سريع للسمات الثورية التركيبة الاجتماعية للحزب و تهجينهما ضمن المسار. و تجلى الانحطاط الانتهازي للحزب الشيوعي السوفييتي كقوة سافرة للثورة المضادة عام 1987، مع اعتماد قانون مكرس العلاقات الرأسمالية مؤسسيا، بذريعة تنوع العلاقات الملكية و سياسة “البيريسترويكا” و “الغلاسنوست” الشهيريتين. حيث شكلت هذه الواقعة معلماً و بداية نمطية لفترة الثورة المضادة.
و بقدر تبني قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي لخيارات تضعف الطابع الاجتماعي للملكية و تعزز المصالح الفردية والجماعية الضيقة، خلقت مشاعر الاغتراب عن الملكية الاجتماعية وتآكل الوعي الطبقي للعمال. و فتح الطريق أمام اللامبالاة، و الفردانية، بمقدار ابتعاد الممارسة و باضطراد عن الإعلانات. حيث تفسر هذه المسيرةواقعة سلبية جزء كبير من الشعب خلال فترة انقلابات الثورة المضادة و تظهر في الوقت ذاته الانحطاط الذي وصلت إليه النواة القيادية للحزب الشيوعي السوفييتي.
عن رسم استراتيجية ثورية معاصرة من قبل الحزب الشيوعي اليوناني
بعد الانقلابات في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى، وكذلك، مع تمظهر الأزمة الداخلية في الحزب الشيوعي اليوناني في تموز\يوليو 1991و التي أدت إلى إبعاد المجموعة الانتهازية التي نشطت في صفوفه، باشر الحزب الشيوعي اليوناني عملية إعادة بنائه ثورياً.
و قد حاول الحزب الشيوعي اليوناني في ظروف صعبة تعود إلى عواقب الثورة المضادة في الحركة الشيوعية الأممية، على مر هذه السنين، دراسة التطورات المعاصرة واستخلاص العبر من التجربة التاريخية للصراع الطبقي في اليونان ودوليا، و في الوقت ذاته، أن يعمق و يوسع روابطه الكفاحية مع الطبقة العاملة والشرائح الشعبية. و كانت الاستنتاجات الرئيسية لهذا المسار بأكمله قد تبلورت في التقديرات من أجل الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي (المؤتمر اﻠ18، 2009) و في البرنامج الذي أقر قبل المؤتمر اﻠ19عام 2013. و من الطبيعي هو استمرار محاولة الدراسة ذات الصلة. و بشكل أعم، يحاول الحزب الشيوعي اليوناني بثبات ألا ينفصل النضال الاقتصادي والسياسي اليومي عن المهمة السياسية الثورية الرئيسية أي إسقاط سلطة رأس المال.
على الرغم من أن العوامل التي من شأنها أن تؤدي إلى حضور حالة ثورية لا يمكن التنبؤ بها، من الممكن نشوء مثل هذه الظروف في اليونان مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، و تفاقم التناقضات بين المراكز الإمبريالية التي تصل إلى الصراعات العسكرية. و في حال اشتباك عسكري إمبريالي لليونان، سواء في حرب دفاعية أو عدوانية، لا ينبغي على الطبقة العاملة، و الحركة الشعبية الانضواء تحت راية أجنبية. سيقود الحزب التنظيم المستقل للصراع العمالي الشعبي لكي يقود نحو الهزيمة الكاملة للطبقة البرجوازية التي تجلب الحرب أو "السلم"مع المسدس في صدغ الشعب.
هذا و تزيد واقعة رسم الحزب الشيوعي اليوناني لاستراتيجية ثورية معاصرة من قدرته على تنظيم بؤر مقاومة طليعية وهجوم مضاد في كل قطاع من قطاعات الاقتصاد، في كل موقع عمل كبير، و في كل منطقة من مناطق البلاد.
و يشكل تعزيز الحزب الشيوعي اليوناني على جميع المستويات، و هو الذي شغل المؤتمر اﻠ20للحزب مؤخراً، وهو مقدمة أساسية لتعزيز سياسته الثورية.
هذا و عن حسن نية يتساءل العديد من العمال، ما اذا كان باﻹمكان مباشرة بناء الاشتراكية في بلد واحد يمتلك قدرات اليونان اليوم. حيث يجاوب الحزب الشيوعي اليوناني،بالتالي :
- بالإمكان تلبية حاجات الشعب، على أساس القدرة الإنتاجية والثروة المنتجة في بلادنا.
- باﻹمكان إقلاع الإنتاج المحلي على نحو زاخم، إذا ما تخلص من قيود الملكية الرأسمالية واستغلال الطبقة العاملة.
- وحدها السلطة العمالية فقط، هي القادرة على الاستفادة لصالح الشعب، من التناقضات بين التحالفات الإمبريالية، المتفاقمة حاليا.
- يجب علينا ألا ننظر إلى توازن القوى في المنطقة اﻷشمل من منظر سكون، لأن هذا سوف يتغير بشكل كبير في ظروف ثورية، وليس فقط في بلادنا بل أيضا في المنطقة الأوسع.
وفي التوازي مع ذلك، يكافح الحزب الشيوعي اليوناني من أجل إعادة بناء الحركة الشيوعية الأممية، وفقا لمبادئ الأممية البروليتارية، و التضامن الأممي بين الشعوب ضد الرأسمالية والحرب الإمبريالية، المعرب عنه بشعار "يا عمال العالم اتحدوا". و هو يحصي سلفاً قيام بعض الخطوات الصغيرة في محاولات إنشاء قطب متميز يقوم على مبادئ الماركسية - اللينينية، من خلال "المجلة الشيوعية الأممية"والمبادرة الشيوعية الأوروبية.
و يتمثل عنصر مكون في الاستراتيجية المعاصرة للحزب الشيوعي اليوناني في رؤيته البرنامجية للاشتراكية. إن بناء الاشتراكية يبدأ مع إستيلاء الطبقة العاملة ثورياً على السلطة. حيث تمثلالدولة العمالية، وديكتاتورية البروليتاريا، أداة الطبقة العاملة في الصراع الطبقي المستمر خلال الاشتراكية عبر صيغ و وسائل مختلفة. و تستخدم من أجل التطوير المخطط للعلاقات الاجتماعية الجديدة، وهو ما يشترط خنق محاولات الثورة المضادة، وتنمية الوعي الشيوعي للطبقة العاملة. إن الدولة العمالية، هي ضرورية باعتبارها آلة السيطرة السياسية، حتى تحويل جميع العلاقات الاجتماعية إلى الشيوعية لحين تشكيل الوعي الشيوعي في الغالبية العظمى من العمال، كما وحتى انتصار الثورة، على الأقل في البلدان الرأسمالية الأقوى.
إن العنصر الجديد نوعيا في السلطة العمالية هو تحويل موقع العمل (وحدة الإنتاج، و المرفق الاجتماعي، وحدة اﻹدارة، و التعاونية الزراعية في المرحلة اﻷولى) إلى نواة تنظيمها.
و عبر اجتماعات عمال كل وحدة إنتاجية تؤسس ديمقراطية العمال المباشرة وغير المباشرة، والقدرة على السيطرة واستدعاء الممثلين المنتخبين، أي الحق الجوهري في التصويت مقارنة مع معيار التصويت الحالي للديمقراطية البرجوازية، لديكتاتورية رأس المال.
و تتمثل مهمة الرئيسية لهذه السلطة في تشكيل نمط جديد من الإنتاج، و هو الذي تشترط سيطرته الإلغاء الكامل للعلاقات الرأسمالية، لعلاقة رأس المال- العمل الماجور. حيث ينص برنامج الحزب الشيوعي اليوناني على:
"سيُفرض التملك الإجتماعي على وسائل الإنتاج الممركزة، حيث تبقى قائمة في البداية أشكال للملكية الفردية والجماعية و تشكل أساساً لوجود العلاقات البضاعية- المالية. و تصاغ أشكال تعاونيات إنتاجية، حيث لا يسمح مستوى القوى المنتجة بعد، بالتملك اﻹجتماعي. و تشكل صيغ الملكية الجماعية شكلا انتقاليا للملكية، بين الفردية والاجتماعية، و ليست بصيغة لباكورة العلاقات الشيوعية ".
و فوق أساس الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج الممركزة، والتخطيط المركزي للاقتصاد يتطور التخطيط المركزي باعتباره علاقة شيوعية تربط جميع المنتجين. و يدمج إلى حد ما الإنتاج التعاوني الريفي في التخطيط المركزي. و ذلك، بالتوازي مع توسيع وتعميق علاقات الإنتاج الشيوعية، حيث تكتسب الطبقة العاملة تدريجيا قدرة المعرفة الشاملة لمختلف أجزاء عملية الإنتاج.
و في تزامن مع توزيع جزء من المنتج وفق معيار الحاجات (تعليم، صحة، تدفئة، و غيرها)، يوزع الإنتاج الاشتراكي الجزء المتبقي من منتجاته على أساس عطاء العمل الفردي لكل فرد في إجمالي العمل الاجتماعي، دون فصل العمل إلى بسيط و معقد، إلى يدوي و عقلي.
و يشكل الحزب الشيوعي النواة القيادية للسلطة العمالية الثورية، لأنه هو القوة الوحيدة التي تعمل بوعي وفقا لقوانين حركة المجتمع الاشتراكي – الشيوعي.
إن ثورة أكتوبر تشير للطريق
لقد تفككت بالكامل اليوم النظريات التي وصَّفت الثورة المضادة على أنها عملية تجديد للاشتراكية كانت ستفتح الطريق إلى الصداقة والسلام بين الشعوب. وفي الوقت نفسه، فقد تفككت كل نظريات وسياسات أنسنة للنظام الرأسمالي. و بالتوازي مع ذلك، تخلق التناقضات القائمة بين الدول الرأسمالية و المجموعات الاحتكارية ذات النطاق الدولي، المزيد والمزيد من بؤر الحروب مع خطر حقيقي لتعميمها. حيث يقوم السرطان الاجتماعي للملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج "بإظهار أنيابه الملطخة بالدماء".
إن كافة من احتفلوا بانقلابات الثورة المضادة في أعوام 1989- 1991انفضحوا على نحو لا يمكن إصلاحه، و قد أسهموا في تآكل الحركة العمالية، و في تشكيل مزاج القدرية و التوافقية السائد. و على النقيض من ذلك، فإن الحزب الشيوعي اليوناني هو فخور لامتلاكه العزم خلال تلك اللحظة الحرجة، أي يوم تنكيس الراية الحمراء من الكرملين، حيث وجه حينها نداءاً نحو الشيوعيين عبر صحيفته ريزوسباستيس : "فلنرفع الراية أيها الرفاق".
يخوض الحزب الشيوعي اليوناني معركة صعبة اليوم لامتلاك تلك الخصائص التي تمكنه من القيام بدور الطليعة الثورية "في السراء و الضراء". إن الصراع في الظروف الحالية من أجل الإلغاء الكامل للاستغلال الطبقي وبناء المجتمع الاشتراكي - الشيوعي هو تكريم عملي لثورة أكتوبر وأغراضها.
وعلى الرغم من سيطرة الثورة المضادة، لا تزال كلمات ماياكوفسكي تشير للطريق:
"عاشت الثورة الضاحكة المُنقَّضة بزخم
هذه هي الحرب العظيمة الوحيدة
من جميع الحروب التي رأها التاريخ حتى الآن ".
اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني
23/5/17